عدد الضغطات  : 6163
 
 عدد الضغطات  : 6279  
 عدد الضغطات  : 2017  
 عدد الضغطات  : 19797  
 عدد الضغطات  : 6274  
 عدد الضغطات  : 10292

الإهداءات

آخر 10 مشاركات
نفحات المروج Meadow Breezes (الكاتـب : محمود عباس مسعود - مشاركات : 1122 - المشاهدات : 126666 - الوقت: 01:52 AM - التاريخ: 04-02-2023)           »          رمضان مبارك 2023 (الكاتـب : غادة نصري - مشاركات : 10 - المشاهدات : 266 - الوقت: 07:58 AM - التاريخ: 04-01-2023)           »          رباعيات (الكاتـب : بغداد سايح - مشاركات : 2548 - المشاهدات : 180007 - الوقت: 02:47 PM - التاريخ: 03-31-2023)           »          مدارج حبه (الكاتـب : بغداد سايح - آخر مشاركة : غادة نصري - مشاركات : 1 - المشاهدات : 65 - الوقت: 07:24 AM - التاريخ: 03-30-2023)           »          اَلْمَرايا الماضِية (الكاتـب : أحمد القطيب - مشاركات : 2 - المشاهدات : 646 - الوقت: 03:59 PM - التاريخ: 03-24-2023)           »          احتفاء (الكاتـب : عبدالسلام مصباح - مشاركات : 0 - المشاهدات : 251 - الوقت: 03:44 AM - التاريخ: 03-22-2023)           »          ذكريات العمر الجميل وحديث عن كرة القدم والعمل والهواية (الكاتـب : ناجى السنباطى - مشاركات : 2 - المشاهدات : 794 - الوقت: 06:55 PM - التاريخ: 03-17-2023)           »          عيد الاحزان والاسرى في عتمة الزنزان/ د. لطفي الياسيني (الكاتـب : لطفي الياسيني - مشاركات : 2 - المشاهدات : 487 - الوقت: 07:30 PM - التاريخ: 03-16-2023)           »          قالوا زمان ... مثل شعبي تحت المِجهر . (الكاتـب : نرجس ريشة - مشاركات : 53 - المشاهدات : 34821 - الوقت: 12:20 AM - التاريخ: 03-13-2023)           »          تحية الى المرأة في 8 آذار / د. لطفي الياسيني (الكاتـب : لطفي الياسيني - مشاركات : 2 - المشاهدات : 613 - الوقت: 05:32 AM - التاريخ: 03-11-2023)

تقييم هذا المقال

رواية .....أكتبها معكم ..فكرة فكرة

أضيفت بتاريخ 11-04-2017 الساعة 11:55 PM بواسطة وراد خضر

نبوءة و امرأة

بقدميه العاريتين الباردتين تحدَى خوفه ومضى إليها,لم يكن وجهه شاحباً رغم حزنه ولم يكن خائفاً منها أو من غرورها المعهود وهي تتقدم بسرعة وتتراجع ببطء فوق الرمال الرطبة كغانية لعوب,لم يكن يخشى هذه المرة أن تسحبه معها إلى أعماق كان يرهبها فيما مضى ,أعماق فقد فيها كل ماضيه وأحبته ,أراد أن يواجهها كبحّار وكبحّار تقدم نحوها بخطىً واثقة وعندما لسعت برودتها أصابع قدميه وعبرت جسده النحيل قشعريرة خرساء,أحسّ بالرمال تنسحب بهدوء تحت كعبيه لتنحت حفرتين أضاعتهما الموجات المتلاحقه على ذلك الشاطئ المشؤوم, فتقدم بسرعة حتى غمرت المياه كامل جسده,لم يكن يتقن فن السباحة لكنه استسلم لقانون البحر واستلقى فارداً ذراعيه تحت السماء كمن أمضى عمره في البحر وتنشق نشوة الانتصار للحظات قبيل أن تغمر وجهه موجة قوية جعلته يفقد توازنه ونشوة انتصاره وتركته ليعود من معركته الأولى خاسراً أمام جبروتها.تمدد على الرمال مكسوراً وأخذ يراقبها بحقد موجة تلو الأخرى تقترب بعزم وتنسحب بهدوء,كان جسده مبللاً بالكامل والنسمات الباردة كانت تلسعه بسوطها دون رحمة ,نهض بصعوبة يحمل حذاءه عائداً أدراجه بتثاقل حين استوقفه صوت مشاجرة بين الصخور,كانا شابين وخصمهما صبي في العاشرة استطاع ببراعة أن يسلبهما حتمية الفوز عليه ويخرج من معركته منتصراً تاركاً لهما لوعة الخسارة أمام طفولته وصغر سنه.
اقترب منه الصبي وهو يرمقه بعينيه الجادتين فتردد قليلاً ثم سأله: كيف ....استطعت؟
ابتسم الصغير منتشياً وقال:بقوة قلبي.
لكن قلبي ضعيف(قال في سرّه)
قلبك قوي(قال الصبي)بصوت واضح وهو يخترق عينيه كسهم من نار ...واختفى كحلم تبخر..في الضباب.
في كل مرة أقرأ فيها هذا النص يأخذني سحر الكلمات إلى المكان التي كتبت فيه فوق ذلك المكتب الخشبي الصغير الذي لم يكن يتسع إلا لفنجان قهوته الباردة وللمحبرة والأوراق البيضاء التائهة بين أفكاره المرتبة ودخان سيجارته السابح بينهما بصمت.
لماذا يترافق الإبداع مع التدخين ؟وماهو السر الذي يجمع بين السجائرالمتعبة والكلمات الرشيقة؟ وهل تلك القصة التي أشيعت عنه بأنه لم يصب بالزكام ولو لمرة واحدة في حياته تكون صحيحة رغم حقيقة وفاته بسرطان الرئة؟
قبل عامين وعندما طالعني خبر وفاته في جريدة محلية
لم أستطع تصديق الخبر وقد عرف عنه بأنه غطاس ماهر ..هو الذي كان قادراً على الغطس لمدة دقيقتين كاملتين تحت الماء ...رجل بنَفَسه الشعري ورئتيه المنفوختين أدباً و زفيره المملوء ثورة ...يختنق ويسلبه السرطان أنفاسه المشتعلة...خبر لا يقبل التصديق.
برفق تركت أوراق المقال تستريح على وسادتي علّها تغفو قليلاً وتتوقف عن قرع طبولها في رأسي...الفوضى عارمة على السرير ...مقالات ..دوواين...روايات ...وصورته الموقعة باسمه :يوسف... ومن أجمل من يوسف الخليل حين يطرق باسمه الأبواب المغلقة لتفتح على مصراعيها مستعدة لتزفّ الحرف كعاشقة غجرية لا تتقن الرقص إلا حافية القدمين.


جثوت متعبة عند حافة السرير وأسندت رأسي على الجدار القريب ...كثيرة هي الفوضى على السرير وفوضوية هي الأفكار في رأسي...ولم يعد لدي متسع من الوقت عليّ أن أكون أكثر تركيزاً وأشدّ حزماً قبل الموعد المحدد لمناقشة الرسالة.
أربع سنوات مرّت أمام عينيّ كرواية لم أنتهِ من قراءتها مذ وطأت قدميّ حرم الجامعة أول مرة ... وقتها لم تكن تشغلني أهمية الفرع الذي اخترته ولا الوظيفة التي قد أشغلها لاحقاً ...كنت كجميع طلاب السنوات الأولى نعيش تجربتنا الخاصة بعد المرحلة المدرسية وجلّ اهتمامنا كان يتلخص باجتياز السنوات الدراسية بنجاح ...وبالرغم من أن دراسة الأدب العربي لم تكن يوماً لغاية أكاديمية فقط إلا أنني لفترة قصيرة كنت أكاديمية بحتة ولو أنني لم ألتق يحيى في ذلك اليوم لما كنت خرجت من هذا الإطار وفكرّت بالتحليق في سماء الحرف وفضاء الكلمة كما أفعل اليوم.
لم يكن آذار شهراً عادياً تلك السنة فقد دخلنا السنة الأخيرة للألفية الثانية التي لم تكن نهاية العالم كما تصور البعض بل كانت البداية لأحداث ربما ستكون الأهمّ في حياتي.
ففي شهر آذار من كل سنة يقام معرض الكتاب الذي يعدّ من أهم النشاطات الثقافية والفكرية التي تقام تحت إشراف الجامعة وبما أنني إحدى الفتيات اللواتي ينحدرن من أسر مثقفة وبسيطة في آن معاً،كان هذا النشاط الثقافي شرفتي لدخول العالم الأدبي الراقي ،ومن خلاله أستطيع قراءة ماأشاء من الكتب والروايات ودوواين الشعر طيلة أيام المعرض دون الحاجة لشرائها.
بجموح مراهقة هرعت إلى المكتبة المركزية في الجامعة ذلك الصباح الآذاري البارد لحظة علمت بافتتاح الفعاليات الثقافية فيها ...لم يكن المكان بالحجم الذي تصورته لكن ذلك لم يمنعني من أن أتنفس رائحة الكتب الذكية وأتذوق شهدها الشهي الذي يسيل على رفوف دون أخرى ..يجذبني اللون الأحمر في أغلفة الكتب كما تجذبني العناوين التي قلما تدل على محتواها إلا أن العناوين بحد ذاتها عالم من الأفكار التي تثير فينا أحلاماً وآمالاً وأوجاعاً وذكريات كادت أن تمحى .
كنت أتنقل بين المكتبات بمتعة ورغبة شديدتين لسبر أغوارها لدرجة أنني لم ألحظ الناس الذين يحومون حولي بحثاً عن ضالتهم من الكتب .

لفتتني قصيدة في ديوان شعر لشاعر لم أعد أذكر اسمه ،كانت الأبيات رغم عروضها الصحيح مأخوذة من سورة مريم وفيها الكثير من الكلمات المكتوبة بنفس ترتيبها في السورة ،قبلها لم أقرأ هذا النوع من القصائد ولم أسمع عنه ...شعرت بنشوة كبيرة تعبرني ربما بسبب مكانة هذه السورة في نفسي بالإضافة إلى تذوقي للشعر العمودي بمنتهى اللذة ...

لم أعد أتذكر التوقيت الذي تقاطعت فيه أقدارنا ذلك اليوم وكل ماأذكره أنني أثناء خروجي من الباب الرئيسي للمكتبة_ ربما لأنني كنت أهم بالخروج جسداً تاركة أجزاءً من روحي ووجداني في الداخل_ اصطدمت به بقوة فأوقع الكتاب الأحمر الذي كان يحمله من يده ..انحنيت ببطء لألتقط الكتاب وأعيده إليه كردة فعل طبيعية لما حدث إلا أنه كان أكثر خفة مني ورفع الكتاب إليه بسرعة.
_ مممم.....لم استطع النطق
_ ليست مشكلة قالها ببساطة
_مممم....متأسفة
_لا عليكِ ...
كان عليّ أن أتجاوزه إلى اليمين حتى اتمكن من الخروج إلا أنّه أغلق عليّ الطريق بيده وأخذ يتفحص ملامحي بعينيه المتسعتين المبهورتين كمن رأى ميتاً عاد إلى الحياة وراح ينقل بصره على وجهي على جسدي على يديّ مساماً مساماً وكأنه يعرّيني من جلدي...بنظراتي الغاضبة ويديّ المتشنجتين أبعدت يده وأنا أشق طريقاً للخروج كمن يشق نفقاً في الجبل..
لم أتجاوزه مسافة قصيرة حتى رمقني بنظرة شعرت بها تخترقني من الخلف وقال:
_عيناكِ خلفهما غيوبٌ لا تُحدّ ولا تُنال.....
وبعفوية وجدتني أكمل البيت:
_ كجزيرة الأسرار عند حدودها احترق السؤال.
لا أدري مالذي أنطقني تلك اللحظة ومالذي حمل صوتي الجبان على الشجاعة حينها لكنه الشعر كان وسيبقى نقطة ضعفي التي من خلالها أدخل إلى دهاليز الحوارات التي لاتنتهي دوماً على ماأهوى.
مشى باتجاهي على عجل وتجاوزني بخطوة أو اثنتين ربما ثم اعترض طريقي وسألني بصوت دافئ:
_ من أنت؟
تهربت منه ومن عينيه الجادتين واتخذت طريقي باتجاه الكلية بخطوات عجالى محاولة أن أتخلص من تأثيره على أنفاسي المرتبكة فإذا به ينادي بصوتٍ عالٍ: مريم ....مريم
استدرت بسذاجة لدى سماعي لإسمي كردّة فعل عفوية وعندما تيّقن أن اسمي هو مريم فعلاً ،خرّ على الأرض رافعاً يديه إلى السماء وهو يصيح إنها مريم ....أنت مريم ...أنت أنت
مشيت باتجاهه برأسٍ تملؤه الأسئلة و الإصرار لفهم ما يحدث ووقفت أمامه بثقة وهو مايزال راكعاً على ركبتيه.
_ وهل تعرفني؟؟؟
نظر إليّ رافعاً عينيه اللامعتين تحت اشعة الشمس التي تسطع خلفي ونهض واقفاً ليتأّملني للحظات في سلام ثم قال:
_ لقد التقيتك في كتاب.
....................

ها قد بدأت الريح تغازل أمواج البحر الذي خرج من سكونه إلى الحياة تحت أشعة الشمس العمودية التي اخترقت بجرأة زجاج النوافذ وتسللت بوضوح إلى غرفتي..لم أشأ الهروب من أشعتها الدافئة لكنني نهضت لإسدال مظلة الشرفة حتى أخفف من انعكاس الشمس على زجاج طاولتي في محاولة بسيطة لتفادي السطوع الذي ينعكس مباشرة في عينيّ...راقبت الأمواج التي ترتطم بالشاطئ من شرفتي تحت المظلة التي اهترأت تحت تأثير الرطوبة التي لا تفارقها على مدار السنة .كانت الكتب والأوراق لاتزال مبعثرة على السرير والصورة التي اشتريتها له من المكتبة مستلقية بخجل فوق إحداها..أمسكت بالصورة وللمرة الاولى الاحظ الشبه بينه وبين يحيى لا بد ان هذه الصورة قد التقطت ليوسف في سن الأربعين وكان يرتدي فيها سترة رسمية من قماش الكارو خطوطها باللونين الرمادي والأزرق،تحتها قميص باللون الأزرق السماوي وياقة حمراء ومن جيب السترة تطل محرمة بلون الياقة.وجه بيضوي بجبهة عريضة تغطيها بعض الشعرات الذهبية تخللها الشيب الذي تجمع عند الصدغين وبشرة طفولية وردية اللون رغم بعض التجاعيد الخفيفة التي تتوزع على طرفي العينين الحانيتين ،حاجبان رفيعان،أنف شامخ بين الوجنتين البارزتين وذقن متناسق مع الفم الذي يرسم ابتسامة ساحرة كابتسامة يحيى...كان ليحيى ابتسامة مميزة فهو الذي يبتسم دون أن يتغير شكل شفتيه مثلنا إلا أن الغمازتين اللتين تتسعان وتتعمقان بجوارهما مع البريق الذي يشع من عينيه كانا الدليل الأكيد على ابتسامته.
التقيت يوسف الخليل للمرة الاولى في مدرستي ويومها لم أكن أعرف من يكون فقد كان مدرس اللغة العربية البديل الذي سوف يدرسنا في غياب الأستاذ طاهر الذي اضطر ان يسافر إلى فرنسا لإجراء جراحة خطيرة لابنته المريضة...لم يكن من السهل علينا نحن طلاب الثالث الثانوي وفي نهاية السنة أن نكمل المنهاج المدرسي مع مدرس جديد لكن ظروف العملية الجراحية التي قد لاتنجح لابنة استاذنا حالت بيننا وبين الغضب الذي يعتمل في صدورنا.
كان ذلك في منتصف شهر نيسان ذلك العام حين دخلت مديرة المدرسة المعلمة صباح يرافقها رجل حاد النظرة رقيق الملامح وقالت:هذا المدرس الجديد سينوب عن الاستاذ طاهر حتى عودته وغادرت الصف بهدوء دون تهديد او وعيد كما اعتدنا منها...لحظات من الهدوء خيمت على القاعة بعدها دخلنا في حالة من الفوضى والضجيج لم يكترث لها معلمنا الجديد الذي اتخذ مكانه على الكرسي الخاص به وفتح كتاباً يقرأه حتى نهاية الحصة الدرسية..
في اليوم المدرسي التالي وحين دخلنا إلى قاعة الصف كان يجلس في مكانه مبتسماً تلك الابتسامة الساحرة بعد أن كتب قصيدة من خارج المنهاج على السبورة.دخلنا بهدوء وحذر وبعد أن عم الهدوء في القاعة وقف وأشار إلى السبورة وبصوت دافيء طلب منا قراءتها بإمعان ومحاولة شرح الأبيات على ورقة بيضاء نكتب أسماءنا أعلاها ونقدمها في نهاية الدرس.
كانت القصيدة إحدى قصائد الشاعر يوسف الخليل وكنت من شدة حبي لهذه القصيدة قد كتبت رداً عليها على نفس البحر والقافية..فقد كنت قد تعلمت أن أبدل كلمات بكلمات اخرى مختلفة بالمعنى ولها نفس الوزن لأحصل على قصيدة جديدة ومختلفة . وفجأة لمعت في رأسي فكرة كتابة ذلك الرد على الورقة التي تحمل اسمي كبارقة امل بمستقبل لم تتحدد ملامحه بعد.وقدمتها في نهاية الدرس مع الاوراق الاخرى التي استلمها منا ذلك الصباح.
كنت أتلهف في اليوم التالي لمعرفة رأي المدرس الجديد بموهبتي لكنه دخل إلى القاعة ولايحمل في يده إلا كتاب اللغة العربية.جلس لدقائق وهو يتفحص وجوهنا ثم طلب منا أن نقوم بالتعريف عن أنفسنا بإشارة منه لسلمى التي تجلس في المقعد الاول أن تكون البادئة وحين جاء دوري وقفت بثقة لأعرفه عن نفسي ظناً مني بأنه قرأ الرد،لكنه لم يبد أدنى اهتمام وتابعت الفتيات تعريفهن بأسماءهن..لملمت ابتسامتي بخيبة وجلست محدقة بالنافذة بانتظار انتهاء الحصة الدرسية.ودون جدوى رحت انتظره يومياً قبل بدء الدرس لأسأله عن رأيه بما كتبت ..وذات صباح تمكنت من الاقتراب منه مسافة تكفي ليلاحظني وسألته :هل قرات قصيدتي؟
رفع حاجبيه ليجيب ربما او ليستوضح الامر لكن المديرة نادته لحظتها وطلبت منه ان يوافيها إلى الإدارة على عجل ....لم أره ثانية لان الاستاذ طاهر عاد إلينا بعد ان فقد ابنته إثر نزيف دماغي تعرضت له خلال العملية الجراحية.

بدأت الشمس تميل على الأفق مبتعدة عن شرفتي خلال الوقت الذي أمضيته مع العائلة بسبب اصرار والدتي على تناول الغداء معها وزكريا ..دخلت إلى غرفتي ورحت أرتب الكتب والأوراق وأضعها على الرفّ الخشبي الذي ثبته لي والدي على جدار الغرفة كمكتبة متواضعة تحمل ماأملك من الكتب ...لكم حلمت ومازال حلم المكتبة الكبيرة يراود مخيلتي ...أو أن يكون لي ذات يوم غرفة بجدران من رفوف خشبية تحمل كل الكتب التي كتبت منذ بدء الأبجدية.
كان كتاب يوسف الخليل (سأعود للحياة) الأصغر حجماً في مكتبتي البسيطة رغم عمق الفكرة التي تحتل صفحاته الستين ...كان يتحدث فيه عن الفشل مراراً وتكراراً ولم ينته بقصة نجاح كما توقعت لكنه اكتفى بوصفها المحاولة الأخيرة وترك للقارئ ان يتوقع النتيجة النهائية ...كثيراً مانحاول إنجاز أمر ما بنجاح لمرة او مرتين قبل الاستسلام وهذا ماحدث معي يوم بدات بكتابة رواية المرأة الكاملة ...في البداية كانت تتدفق مني الكلمات بسهولة ويسر لكنني في صحوة عابرة أدركت أن لاوجود للمرأة الكاملة وتوقفت عن الكتابة...أغراني الكتاب ثانية لأقلب صفحاته الستين فحملته كطفل صغير ورحت أداعب صفحاته صفحة صفحة حتى وصلت إلى السطر الذي أشار إليه يحيى بقلم الرصاص كعادة القراء حين يضعون خطوطهم تحت العبارات التي أثارت فيهم إحساساً مختلفاً..(كثيراً مانلتقي بأناس يمرون على هوامش حياتنا ثم ينسلّون إلى السطور ليكونوا السبب الأهم في إعادتنا لصياغتها بطريقة أفضل)...هكذا انسلّ يحيى إلى سطور أيامي وأخذ يغيرها حرفأ حرفا وحلماً حلما..كمن يكتبني في رواية أنا بطلتها ..بطلة سوف أكونها ذات كتاب.

كانت الرواية(سأعود للحياة) ملقاة عند قدمي لبعض الوقت ذلك الصباح في اليوم الأخير للمعرض تتوسلني كي أرفعها ولم أستطع أنا التي تقدس الكتاب أن اتركها بمكان لايليق بها لفترة أطول...صحيح أنني من رميتها بسبب الغرور الذي تملكني حين كان يحيى يفرضها عليّ قبل لحظات..إلا انني لم أكن لأدع غروري يمنعني من التقاطها ورفعها إلى يديّ.
لم يكن ذلك الثلاثاء يوماً عادياً فقد كان اليوم الأخير في معرض الكتاب ولم أكن لأفوت حضوره بسبب الامطار التي بدأت ليلة الأثنين ولم تتوقف إلا لساعة واحدة صباح الثلاثاء في الوقت الذي كنت قررت المرور بالمعرض لبعض الوقت قبل بدء المحاضرة..لم ألتق بحيى في الأيام السابقة ولم أكن في انتظار لقائه ذلك اليوم...
لسبب لم أستطع استبيانه نسيت مظلتي في الغرفة التي أشغلها في الوحدة السكنية السابعة من سكن البنات الجامعي ...كانت الفتاتان نائمتين حين خرجت من الغرفة ولم تكن المظلة في مساحة نظري ولم تكن تمطر.. الامر الذي جعلني انسى أمرها..كان الجو غائماً والسماء مكفهرة قبل أن يعود الرعد ليصخب بشدة وينذر بمطر غزير بدأ قبل وصولي بأمتار ..في تلك اللحظة ظهر يحيى واضعاً قبضة مظلته السوداء في يدي بخفة ثم هرع إلى المظلة الحجرية المشيدة أمام مدخل المكتبة المركزية بانتظار وصولي..
- شكراً
- أنت دائماً على الرحب والسعة
- أشكرك قلتها بجدية وأنا اهز المظلة المفتوحة بعنف لأسقط القطرات التي تجمعت عليها قبل ان اعيدها له.
- هي لك ..خذيها
- شكراً لكنني لا أحب اللون الأسود.
- أعلم ..لكنه يليق بك .
أعدت له المظلة بعد ان أغلقتها ودخلت إلى المكان المسحور.. كانت العادة تجري بأن تشترك عدة مكتبات خاصة بهذا المعرض..كل منها تعرض مالديها من الكتب القديمة والحديثة والنادرة ..كما ان المكتبة المركزية تجهز في هذا الوقت بما يتناسب مع عدد المكتبات المشاركة فتوضع سبعة رفوف متتالية تتصل مع بعضها بحواجز خشبية لتتشكل معاً على شكل صندوق مفتوح خاص بكل مكتبة . كانت الكتب تتوزع على الرفوف السبعة حسب تصنيفها(أدب ،علم، سياسة، فلك، تاريخ،.....).لكن الامر المشترك بينها جميعاً انها كانت تخصص الرف الرابع والذي هو بموازاة قلب انسان متوسط القامة للروايات وقصص الحب المعروفة والرف الذي يعلوه برفّين اثنين للكتب السياسية وكأنما يضعون القارئ بين فكيّ كماشة هما قلبه وقناعاته.
كانت ساعة الحائط الكبيرة تشير إلى التاسعة ولاحظت أننا وحدنا في مكتبة الأمل التي كانت المكتبة الأخيرة من حيث الترتيب والأبعد عن الباب الرئيسي للمكتبة المركزية ..أثارني عنوان كتاب(لعبة الأمم) الذي كان يمتد على طول الرف السادس ولم يسمح لي الوقت في اليوم السابق بأن أتصفحه وكنت على وشك أخذه حين جاءني صوته من الخلف:
- أنتن الفتيات لايثير اهتمامكن إلا قصص الحب والخيانة.
لقد استفزتني جملته لكنني هممت لإحضار الكتاب وأنا أقرأ عنوان رواية (الخائن) في الرف الرابع تحت يدي وسمعت الشيطان يهمس لي أن آخذه لكنني كنت قد أمسكت الكتاب وأي محاولة للتبديل بينهما كانت لتبدو مفتعلة.
اتخذت مكاناً في الركن المخصص للقراءة متجاهلة وجوده بهذا القرب.
- اهتمامات سياسية إذن
- بل فضول...
- أتوقع لك مستقبلاً زاهراً وأعلم أن اسمك سيسطع في سماء الادب ذات يوم.
- لكنني لست بكاتبة!
- ليس بعد
- ماذا تقصد؟
- خذي هذه لك
وضع رواية في يدي وهمّ بالمغادرة
- دعني وشأني لا أريد منك شيئاً ...قلتها وانا أرمي الرواية على الأرض ..توقف قليلاً لدى سماعه صوت ارتطامها بالارض لكنه لم يلتفت واستانف خطواته إلى الخارج.
هذه الرواية التي رميتها أرضاً ذلك اليوم في المعرض هي الأحب إلى قلبي اليوم ..وأحب مافيها تلك الخطوط التي خطها يحيى بين سطورها والتي كانت سبباً في تفتح بواكير كلماتي في الأدب.




أفقت فجراً على إيقاع قفزات العصفورة التي كانت تتنقل على الدرابزين المصنوع من الألمنيوم كأنها تنقر عليه بتناغم لإيقاظي.. كنت قد غفوت وأنا متكورة على نفسي وفي يدي الرواية الدافئة كجنين أحميه من تقلباتي أثناء النوم ..هي عادة اعتدتها منذ بدأت بالقراءة وكانت والدتي تسحب الكتاب مني صباحاً حين تطل للتأكد من وضع الغطاء الذي ينسحب هارباً كل ليلة ليستقر على الكرسي المخملي المنخفض الذي وضعته أمي بجانب السرير منعاً لسقوطه على الأرض..
وضعت الرواية على الطاولة القريبة والتحفت بالغطاء وحاولت أن أغفو من جديد لكن كلمات القصيدة التي كنت احاول كتابتها قبل أيام اصطفت في ذهني كوحيٍ صباحي مختلف ..ولم اجد مهرباً من كتابتها على الورق قبل أن أغط في النوم من جديد.
حين أفقت صباحاً كانت تفاصيل الحلم الذي رأيته فجراً تنعش كياني كحقيقة لا يشوبها الواقع..كنت(في الحلم) أجلس في الصف الأول من المدرج ذي المقاعد المخملية الحمراء في احتفال تكريمي كالذي يقام في المراكز الثقافية لتكريم الشخصيات الأدبية وحين التفت إلى الشخص الذي يجلس بجواري شعرت بأن قلبي يكاد أن يتوقف إنه هو بحضوره الصارخ ونظراته الهادئة وابتسامته الرقيقة ...ولاريب أنه لاحظ السعادة تشع من عينيّ لوجودي بقربه وقبل أن ألقي التحية عليه سمعت الجملة الأخيرة لمقدم الحفل وهو يقول:
الأديبة الشابة مريم الناصر فلتتفضل مشكورة.
تقدمت بخطىً متباطئة من الدرجات الثلاث على طرف المنصة وأنا أتفحص وجه مقدم الحفل والكتاب الذي يحمله في يديه بعنوان نبوءة وامرأة والذي يحمل اسمي ..وسط تصفيق الحضور الحادّ لرواية يبدو أنني كتبتها وأنها لاقت نجاحاً يستحق هذا التكريم.
صعدت إلى المنصة بثقة وأنا أتذكر جملة يحيى التي تدق أجراسها باستمرار في ذاكرتي.. (سيلمع اسمك كنجم مضيء في سماء الأدب) .في تلك اللحظة تذكرت كل أحداث الرواية التي كتبتها وأنا أقف على المنبر بمشاعر أنيقة لايزيدها رونقاً إلا وجود يوسف الخليل مصفقاً في المقعد المجاور لمقعدي الفارغ في الصف الأول من المدرج.
صوت الضجيج القادم من الصالة أخرجني من سكرة الحلم الممتعة وأعادني إلى الواقع ،لابد أن والدي قد عاد من ثكنته العسكرية بإجازته المعتادة...وبعد أن رتبت السرير وارتديت ملابسي خرجت لألقي التحية الصباحية وأحتسي القهوة التي تعدها والدتي بالتزامن مع وصول أبي في هذا الوقت بعد غيابه لاسبوع كامل عن البيت .
صباح الخير-
- صباااح النور...ردوا بجملة واحدة والإشراقة تعلو وجوههم
اقتربت من والدي وقبلته شاكرة الله على وصوله بالسلامة وسالته؟
- متى وصلت؟
- قرابة السابعة وقد دخلت غرفتك وقبلتك على جبينك ..ألم تشعري بقبلتي؟
- متأسفة كانت ليلتي طويلة ونومي متقطع ولم أغف حتى الرابعة فجراً.
- أعلم..وأنا فخور جداً بك ياشاعرتنا الصغيرة..قال كلماته وهو يربت على كتفيّ بفخر شديد.
لم أستوعب بعد ماالذي يقصده لكن والدتي اقتربت مني وقبلتني وهي تقول:
- قرأنا القصيدة التي كتبتها ..وهي جدّ رائعة..كم نحن فخورون بك حبيبتي.
- ماذا تقصدين؟!!! عن أي قصيدة تتحدثين؟
- شذرات مغرورة ...ردّ والدي وهو يعرض عليّ الورقة الممتلئة بالأبيات والعروض والتفعيلات ..بعد ان كتب في رأس الورقة عنوان اختاره هو لكلماتي.
صمتّ قليلاً لأتذكر القصيدة ...نعم لقد كتبتها فجراً..تذكرت كيف تقمص يوسف الخليل بكلماتي وكتبت وكتبت بقلمي وبأحاسيسه هو..حين تحب شاعراً لدرجة ان تحفظ شعره غيباً وحين تشعر بكل كلمة فيه ..كيف ولدت؟..وكيف تشكلت حروفها؟..وكيف خرجت بتلك الصورة في المكان المناسب لها تماماً ..حين تدخل تلك الحالة من توحدك بذات الشاعر عندها فقط تستطيع أن تكتب بقلمه وإلهامه وتكون قصيدتك إحدى قصائده التي لم يكتبها يوماً.
- لولا أنني رأيت الكلمات المشطوبة والخربشات الكثيرة لظننت انها ليوسف الخليل... قال زكريا.
قاطعه والدي:
-حتى لو قرأتها منشورة في صحيفة وتحت اسم غير اسمك (ونظر إليّ بثقة )لعلمت أنها كلماتك أنتِ.
حدقت بعينيه المشعتين كشمس في أواخر آذار والواثقتين لا يشوبهما ادنى شكّ ...وابتسمت برضى..لم أشأ أن أسأله عن سر ثقته المطلقة بقدرتي بل أردت أن أتمسك بها بشدة حتى تكون العصا السحرية التي افتح بها ابواب الإلهام حين تغلق في وجهي.

والدي كان ولايزال البوصلة الأولى في حياتي و التي تشير دائماً نحو السماء...فهو المعلم الحقيقي والمرشد الأزلي الذي يمهد لي الطريق صعوداً في سلّم الثقافة اللانهائي الدرجات..مازلت ممتنة لذلك الشرط الذي اشترطه عليّ لأحظى بالغرفة المطلة على البحر يوم انتقالنا قبل ثماني سنوات من العاصمة بصخبها وحضارتها وتراثها العريق إلى هذه المدينة الصغيرة التي يسمونها عذراء الساحل .فبعد سفر متعب دام خمس ساعات ثقيلة وحنين لمكان لم اعرف سواه طوال أربعة عشر عاماً وولادة إحساس جديد بالغربة نطقت اولى أبياتي بكلمات شعرية غير موزونة في قصيدة كتبتها وأنا حانقة على وظيفة والدي غير المستقرة ملقية كل اللوم عليها نتيجة انسلاخي عن مجتمعي المألوف والذي بنيت فيه صداقتي مع الأرض والناس والشوارع والليل والياسمين...حين وصلنا إلى البيت الجديد لم أكن أرى سوى الفراغ في تلك الجدران الخالية من الصور التي كانت تملا بيتنا الشامي الفسيح ..وخالياً من الطبيعة التي كانت تنبض بالحياة في ياسمينة الدار والبحرة المحاطة بالورود والخضرة التي رعتها أمي بذائقة المزارعة التي لم تتخلى عن علاقتها بالأرض بعد زواجها من أبي.وحدها الغرفة المطلة على البحر كانت توحي بجزء من ذلك الوطن الأخضر الصغير.. دخلت إلى الغرفة وارتميت على الفراش الغريب وأجهشت بالبكاء بصوت متألم فتبعني أخي الصغير زكريا وكان حينها في الثامنة من العمر وضمني إليه بقوة أخ يكبرني بسنوات وبقي بقربي حتى غلبنا النعاس ونمنا متعانقين. وفي خلال الأيام التالية نفذ صبر والديّ من شدة تذمري من المنزل الجديد والمدينة والناس واستيائي الدائم من كل تفصيل صغير.. فعاقباني بتبديل الغرفة المطلة على البحر بالغرفة المنفردة ذات النافذة الصغيرة التي تقع آخر الرواق الطويل والتي أصبحت فيما بعد مكتباً لوالدي..لكن تلك الغرفة الصغيرة زادت من غربتي ووحدتي ودخلت في صمت طويل .. مما جعل أبي يفكر بإعادتي إلى الغرفة الأولى لكنه اشترط عليّ شرطاً لم أفهمه حينها وهو أن أحفظ ديواناً كاملاً من الشعر وبعد كل قصيدة ألقيها بإتقان كان يسمح لي بنقل غرض واحد إلى الغرفة ..وكان هذا التحديّ الأول في حياتي الذي قبلته على الفور.
وخلال شهرين استعدت غرفتي بعد أن حفظت ديواناُ كاملاً للشاعر يوسف الخليل.

والدي رجل من الطراز القديم له ميول أدبية تبدو واضحة حين يستشهد ببيت من الشعر لإثبات وجهة نظره عند مناقشته لأي موضوع وقد أخبرني لاحقاً بأنه علم أنني أملك الموهبة مثله يوم نطقت أبياتي الأولى وحتى لا أفقدها اشترط علي شرطه الغريب في حفظ الديوان لأنه كان مقتنعاً تماماً بأن من يحفظ ألف بيت من الشعر يستطيع أن يكتبه إذا امتلك الموهبة..
لم يحتج والدي هذا الصباح للكثير من الإسهاب في إقناعي بنشر القصيدة في جريدة ادبية معروفة تقع وسط المدينة ،لأنني كنت مقتنعة مسبقاً بأنها تستحق النشر، وهكذا وجدتني خلال وقت قصير أعيد كتابة القصيدة على ورقة بيضاء كتبت في أسفلها اسمي الثلاثي الامر الذي أثار شجون والدي لحظة قرأ اسمه وهو الذي حلم مراراً ان يُكتب اسمه ذات يوم في جريدة ثقافية وهي المرة الثانية التي أستطيع فيها أن أحقق له حلماً من احلامه.
وصلنا إلى مكتب الجريدة قرابة العاشرة واستقبلنا الموظف المسؤول عن استلام الموضوعات الأدبية...وبعد ان شرح له والدي بفخر عن القصيدة التي اختار هو بنفسه عنوانها وأشار إلى اسمه الذي يلي اسمي اسفل الصفحة ..شعرت بأنه يكاد يطير من الفرح ...ترى كيف سيكون شعوري إذن عندما أرى اسمي في الجريدة ...وماسأقول ل يحيى ...وكم نسخة سأشتري منها ؟؟؟ لم استمع لبقية الحديث الذي دار بين والدي وأبي همّام كما استخلصت لاحقاً من كلامهما عن اسمه ..فقد دخلت في متاهة من النشوة لا اريد الخروج منها...
وبعد اسبوع من الانتظار لصدور العدد الثقافي الاسبوعي من الجريدة ..نزلت متلهفة إلى المكتبة القريبة التي بت أزورها يومياً لأتابع حركة الجرائد وأتخيل عدد الاشخاص الذين سيشترون الجريدة التي تحمل جوهرتي الأدبية...وكانت الصدمة ..لم أجد أي أثر للقصيدة وعدت خائبة إلى المنزل ...وهكذا طوال أربعة أسابيع رحت أتابع وأبحث عن اسمي في الجريدة دون جدوى إلى أن جاء الاحد المشؤوم ...لقد طبعت القصيدة ونشرت في العدد الخامس بعد موعدها المنتظر ولكن تحت اسم لشاعر لا أعرفه...ولتكون القسوة أشد كان لأبيه نفس اسم أبي فبدأت بالبكاء طول الطريق إلى المنزل أحمل الجريدة في يدي كعصفور جريح ..أنا التي التي أطلقت عليه النار حين مزقت اسم الشاعر الزائف الذي سرق القصيدة.....وخلال الشهرين اللاحقين لم أكتب حرفاً ولم استطع متابعة تحضير الرسالة التي أدرس فيها أدب يوسف الخليل وحياته والتي يجب أن أقدمها إلى رئاسة الجامعة خلال أيام قبل انتهاء مدة قبول استلام مشاريع التخرج.
لم أستطع الرجوع لممارسة الحياة بعدها بشكل طبيعي ..حين تنكسر الروح من الداخل لا شيء يمكنه إعادتها كما كانت من قبل...لكن والدي قال لي في إجازته الأخيرة:ليس التميّز في اختصار الخطوات إلى القمة ولكنه يكمن في القدرة على المشي بعد كل وقوع.
لم أحاول التفكير مليّاً بما قال والدي لكنني وددت ان اغوص لدواخلي لأعرف السبب وراء حنقي وحزني واستسلامي لشعور الفشل بعد طباعة القصيدة دون ذكر اسمي وتوصلت إلى نتيجة أزعجتني جداً ...وهي أن كل ماشعرت به لم يكن ليعنيني بنفس الشدة لولا تلك النظرة الفخورة التي لمعت في عينيّ أبي عندما اقتنعت بنشرها وأيضاً تلك الجملة التي يرددها يحيى بثقة على الدوام ...ماذا لو لم أكن قادرة على تحقيق نبوءة يحيى واكون أديبة فريدة ولا قادرة على إثبات وجهة نظر ابي بأن(( من يحفظ الشعر يكتبه))..تلك الجملة التي قالها واثقاً يوم التقط لي هذه الصورة والتي يقول عنها أنها الأقرب إلى قلبه.
على جدار غرفة الجلوس تتجاور عدة صور لي قام ابي بتعليقها على الحائط بترتيب حقيقي حسب وقت التقاطها ...جميعها لها نفس القياس ولون الإطار البني باستثناء الصورة التي أخذها لي يوم سجلت في كلية الادب العربي في الجامعة لها قياس اكبر من الصور الأخرى وإطار ذهبي مذكرش كالذي يستخدم إطاراً للسور القرآنية القصيرة ويظهر خلفي في الصورة بشكل واضح مدخل الكلية حيث حفر على الجدار أعلى البوابة (كلية الآداب).

كنا نهم بالخروج من حرم الجامعة حين بدأ والدي يقص عليّ قصة الشاعر الذي قد أخفاه منذ سنين خلف رتبته العسكرية ..فقد تغيرت هويته وحياته ومستقبله بلمحة عين يوم اغتيال احد الشخصيات النافذة في الدولة وكان يرافق الموكب ذلك اليوم جدي (والده) وكان ضابطاً برتبة مقدم حينها تلقى ثلاث رصاصات إحداها اخترقت ظهره وحولته إلى مقعد عاجز وسببت له الشلل التام في طرفيه السفليين اضظر بعدها للتقاعد والعودة إلى المنزل مكسور الخاطر والجسد .الأمر الذي اضطر والدي لمواجهة الخيار الصعب بين التطوع في الجيش لإنقاذ عائلة من أربعة أفراد هو خامسهم أو تحقيق مبتغاه بمتابعة دراسته في كلية الأداب قسم اللغة العربية ووتحقيق حلمه بأن يصبح شاعراً.
لم يكن من السهل على شاب لم يبلغ العشرين من العمر أن يقرر مصيره ومصير عائلته بإيماءة واحدة لوالد مقعد يقترح عليه الانضمام للجيش في لحظة كانت فيها طموحاته بالكتابة تخطو خطواتها الأولى.
لكن القدر كان قد اتخذ القرار واستطاع بلحظة أن يسلبه رفضه ويبعده عن الحلم الوحيد ويبدله بحلم آخر،ولم يدرك مالذي تغير في ذاته إلا بعد أن وجد نفسه يرفع صوته ليعطي أمراً عسكرياً لمجموعة من العسكريين بدل أن يعتلي المنبر ليلقي قصيدة أمام جمع من عشاق الكلمة.

تساؤلات كثيرة بدات تسلل إلى تفكيري ..ترى هل دخلت إلى هذا القسم في الجامعة تحقيقاً لرغبة والدي؟ كما فعل هو حين انتسب إلى الكلية الحربية تحقيقاً لحلم أبيه أم أنه حلمي انا ؟الذي بدأت ملامحه بالتوضح حين سلط الضوء عليه مدرس مادة الفيزياء بعد أن كتبت خاطرة عوض عن الإجابة على ورقة الاختبار المفاجئ الذي لم أكن قادرة يومها على فك رموزه .. مدرس الفيزياء الذي أصبح شاعراً معروفاً اليوم بعد أن صحح ورقة الإجابة وفي كل حصة درسية وقبل أن يبدأ الدرس كان ينظر إليّ باهتمام ويسألني: مازلت هنا؟ متوقعاً في كل مرة أن أكون انتقلت إلى صف يتلقى المنهاج الأدبي.... ثم يقول :مريم أنت ستنجحين بتفوق إذا مادرست اللغة العربية..كنوع من التشجيع وإبداء لرأيه بجميل ماكتبت. وهذا ماكنت أسمعه من المدرسين بعد كل احتفال مدرسي أعتلي فيه المنصة لألقي الشعر وأقدم الحفل في مدرستي...لكنني كنت واثقة من قدرتي على اجتياز امتحاناتي بتفوق والاحتفاظ بموهبتي أيضاً،وهذا ماحدث فبعد جهد كبير في امتحانات الثالث الثانوي تحققت نبوءتي وكانت الخيارات متاحة أمامي بعد صدور النتائج لكنني اخترت دراسة اللغة العربية ربما لأنني وددت أن تنمو موهبتي فعلاً وربما لأن أبي كان يحلم لي بهذا المستقبل الذي حرم منه حين كان في مثل سني...ستظل الإجابة عن هذا التساؤل تقض مضجعي حتى أتبين السبب الحقيقي الذي قادني إلى هذا الخيار.
أضيفت فيغير مصنف
المشاهدات 15434 التعليقات 2 إرسال المقال إلى بريد
مجموع التعليقات 2

التعليقات

  1. تعليق قديم
    [FONT=Traditional Arabic][SIZE=5]ويستمر الحلم حتى يتحقق غاليتي وراد [/SIZE][/FONT]
    [FONT=Traditional Arabic][SIZE=5][/SIZE][/FONT]
    [FONT=Traditional Arabic][SIZE=5]دمت الابداع[/SIZE][/FONT]
    أضيفت بتاريخ 11-06-2017 الساعة 10:08 PM بواسطة فاطمة بوهراكة فاطمة بوهراكة غير متواجد حالياً
  2. تعليق قديم
    الصورة الرمزية وراد خضر
    اقتباس:
    المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة بوهراكة مشاهدة التعليق
    ويستمر الحلم حتى يتحقق غاليتي وراد

    دمت الابداع
    معكم كل حلم قيد التحقيق
    شكراً لمرورك الكريم
    دمتِ بودّ
    أضيفت بتاريخ 11-06-2017 الساعة 10:11 PM بواسطة وراد خضر وراد خضر غير متواجد حالياً
 

الساعة الآن 01:59 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2023, Jelsoft Enterprises Ltd.
By: Host4uae.ae


HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
جميع ما يكتب فى مؤسسة صدانا يعبر عن وجهة نظر كاتبة فقط ولا يعبر بالضروره عن وجهة نظر إدارة الشبكة

a.d - i.s.s.w

جميع الحقوق محفوظة لصالون صدانا الثقافي 2018 ©