****** عرّى موسم الحصاد عن ساقه باكرا، ورمى بعباءته على حقول الأفوكا التي تسربت إلى القرية، كنوع من الاستعمار الاستثماري للإسبان، لازلنا نراوغ الشرّائين، الذين يرسلون وسطاءهم لاغرائنا ببيع قطعة الأرض التي ترك والدي رحمه الله، مشروع رابح لحقل أفوكا كبير، وهي المستريحة على الطريق الرئيسي للقرية.
ومن خلف تلك الحقول القريبة، لا تسمع غير همهمات مبحوحة، ونحيب يعلو ويخفت، ستنام الدور عارية مكشوفة، لا سقف لبيوت القرية اليوم،* ستظل الأبواب مشرعة، قد كسر البحر كل السُّقط والأقفال، حتى قلب الأمهات لم يرحمه، فقد كسر الأضلاع، وانتزعه من غفوته، وجلاله، ثم مرّغه بالرمل الحارق، وقذفه بموجة سوداء، لولبته كقطعة خشبية لفظتها إحدى قوارب الصيد، حين فكت تعاقدها مع مسمار صدىء.
****** تبلّلت القرية بدموع الأمهات، حتى كروم التين أسقطت صغارها، رأيتهم بعيني يدرجون على عتبة الباب، مغادرين، لم تقدر دالية العنب على نشيج الرجال فهوت عناقيدها المرة، وهم يستظلون تحت عريشتها، حتى تخرج دموعهم طرية، ولا تجففها عيون الشمس في ذاك اليوم القائض، دموع الرجال لا تسيل على الخذوذ، بل تسقط كالنيازك، فتحفر عميقا بالأرض، وقد تروي بذرة غافية منذ سنوات.
******* للحزن أظفار وأنياب، وشهية مفتوحة، ووجه مقبوح، لا تقاسيم له، لا هوية له، يظل يتلوّن حسب نوع الموجوع، ودرجة الوجع...يسمع من قريب خوار العجول والأبقار وصياح الديكة، ونباح الكلاب، حتى نبات الصبار، صار لينا طريا ذاك اليوم، فقد أخفى تينه الشوكي، كي لا تؤذي شوكاته عيون الباكين الذين يمرون حذاءها، يكفي ما بها من قذى وعوار كما أجهشت الخنساء.
تسمع قرقعة أكواب القوة السوداء، تقدم في صوان كبيرة للمعزّين، القهوة السواد تغرف من أنهار السواد التي غطت القرية، وأغرقتها في كأس الكأبة، من يعزي من؟ وكل أهل القرية مكلومين، مجروحين لا تمتد يدهم في هذه اللحظة إلا إلى مناديلهم المطرّزة بالطرز الفاسي أو الرباطي، ومنهم من زهد حتى في المناديل الورقية، فدس دمعته بكم قميصه. الأمر مختلف عندنا بالمدينة، تقدم (براريد) الشاي بالنعناع، وصحون الزبدة والعسل، بينما قصاع الكسكس تأتي من كل الأطراف، فتلت حباتها نساء بذرن بالخير، يشمّرن على سواعدهن الملتفة على القصاع والسميد والغربال كلبلاب عجوز، يغنين لحبات السميد أغانيهنّ الحزينة المرتجلة، حتى تذرف السميد لذتها الحزينة وهي تمتزج بمرق الخضر السبعة ولحم الضأن.
******** في زاوية البيت الطيني لإحدى فقيرات القرية، تتكور امرأة ستينية، أو هكذا يبدو عليها، أليس الحزن بكاف لأن يمتصّ غضاضة كل طري، أن يجفف ماء البرعم المجدول* على مشبك حبل الغسيل؟ أليس للحزن فريقا مدرّبا، يهاجم بكتائب غفيرة، لا تذر أخضر إلا يبّسته، ولا قويا إلا عجّزته، ولا صلبا إلا ليّنته؟ أليس الحزن كائنا زئبقيا، بلا روح ولا نظر، يعشب في دواخلنا حدّ التجدّر...؟
***** لا يلبس لدينا السواد حدادا، حتى الموت نستقبله بالأبيض والزغاريد، فشعر العزباء (ياقوت) يُعطَّر بزرقة البحر، وتضفره عنوة يد حورية مهووسة بنوبات الموضة. لم يلفظ البحر الجتثة بعد، حتى البحر يحتاج إلى (ياقوت) تمتطي موجه، وتعلّم أصدافه كيف تحتفظ بالضوء بعيدا عن عيون البكاة، البكاة أم ثكلى، أتعبتها السنون، والخدمة في حقول الأغنياء والإسبان، لتُسلم شابا في عقده الثاني إلى قارب الموت، متأبطا يد أخته ذات السبعة عشر ياقوتة، ملولبان داخل حلم دائري، مركزه قلب الأم، ومحيطه ما خضر من الألام والأحلام، ويد البحر أطول من أه، تفرش كفها لكل قارب هارب من النار إلى النار، وتحوطه بقلب يابس لا يعرف للبلل طريقا، فقط هي النوارس تتقن فن الاصطياد.
لم تركب القارب ياقوت وحدها، إنهم حشد من شباب القرية، أشرعوا أذرعهم للبحر... فاطمة، أشرف، سارة، عبد الجليل، غالية...غالية رخُص دمها على مقاعد البرلمان، على أجندة البرامج الانتخابية، التي وعدها مترشحوها أن يضمنوا عيشا كريما لها ولأيتامها، فداست حبل كذبهم إلى قارب النجاة، ليكون الموت نجاة من قفة المنافقين.
*تمّ مؤخرا إلقاء القبض على العصابة المتخصصة بالهجرة السرّية بشمال المغرب، حيث نصبت خيمة العزاء الكبيرة.